عام 1998 ، بدأت سوق التأمين المصرية تعرف طريقها إلي ما يسمي بالتأمين البنكي، او Bank Insurance ، ولمن لايعرف ، هو تعاون بين شركة التأمين والبنك، بحيث تقوم شركة التأمين بترويج منتجاتها عبر فروع البنك الذي تتحالف معه، مقابل حصول الثاني علي نسبة من القسط، تحت بند عمولة تسويق.
بعد عِقد كامل من بدء هذا النشاط ، تحديدًا في 2008 ، صدر قرار من البنك المركزي المصري ، بتجميد إبرام أية تحالفات جديدة ، بين وحدات القطاع المصرفي، الخاضعة لولايته، وبين شركات التأمين ، التجميد لم يكن بقرار مباشر، ولكن من خلال رفض المركزي المصري ، الموافقة علي توقيع اتفاقيتين جديدتين بين إحدي شركات التأمين وعدد من البنوك ، القرار حينها كان مفاجئًا – علي الأقل لنا كوسائل إعلام- لكن خرج علينا الدكتور عادل منير، رئيس الهيئة للرقابة علي التأمين حينذاك- تحديدًا في 22 يونيو 2008 ، ووصف قرار المركزي، بأنه “وقفة” من جانب “المركزي” لتنظيم التأمين البنكي ووضع ضوابط جديدة له ، وإعادة تقييم الاتفاقيات التي تم توقيعها بالفعل، خصوصًا بعد أن اكتشف البنك المركزي أن هذه الشركة لديها عدد كبير من الاتفاقيات في هذا الشأن، بينما يوجد 3 شركات أخري لديها 3 اتفاقيات فقط في نفس المجال.
كان هذا السبب المُعلن، لكن ما لم يُعلن حينها، وتردد في الغرف المُغلقة – ليس لدينا دليل عليه- ان الرفض جاء بسبب بعض الممارسات غير المنضبطة ، التي لم نعرف ماهيتها حينذاك.
ونظرًا لأهمية التامين البنكي للشركات ، خاصة لتلك التي تزاول نشاط الحياة، دخلت دوائر صنع القرار، سواء من الرقابة علي التامين، او من الكيان التنظيمي، ممثلًا في الاتحاد المصري للتأمين، برئاسة عبد الرؤوف قطب حينذاك، في نقاش طويل ومفاوضات اطول مع البنك المركزي، للموافقة علي عودة تلك التحالفات – نظرًا لتأثر نتائج أعمال شركات الحياة-.
في مايو 2013 – اي بعد خمس سنوات من التجميد- تم السماح للبنوك بالتحالف مع شركات التأمين، وصدرت ضوابط جديدة من البنك المركزي في 22 مايو ، وقرارًا اخر بنفس الضوابط اصدرتها الهيئة العامة للرقابة المالية، برئاسة شريف سامي في ذلك الوقت ، بموجب القرار 36 لسنة 2013 ، منها ذِكرًا – اي الضوابط – ان تكون الشركة قد حققت فائضًا من الإكتتاب – بمعني أرباح فنية بدون عوائد الاستثمار- خلال العامين السابقين علي تقديم طلب تسويق منتجاتها النمطية عن طريق أحد البنوك
عادت المياه لمجاريها، لكن المياه لم تكن نفسها التي جرت عام 1998، بل مياه أخري، لاسيما بعد ان شهدت سوق التأمين ، زيادة في عدد شركات التأمين سواء التي تزاول نشاط الحياة وفق الاسلوب التجاري او التكافلي ، والنتيجة ، طالبت الشركات من الرقابة المالية، بالسماح لها- بعد الاتفاق مع المركزي بالطبع- بتوسيع قاعدة التحالفات، بحيث يُسمح لكل بنك التحالف مع أكثر من شركة تأمين بدلا من قصرها علي واحدة لكل نشاط.
الرقابة المالية لم تصم أذانها عن أنين وطلبات شركات التأمين، تحركت ، وتفاوضت مع البنك المركزي، لدراسة طلب الشركات، وتم الاتفاق علي بعض الضوابط، صدرت بها قرارات في مارس 2016، تتضمن السماح لكل بنك بالتحالف مع 4 شركات تأمين، بدلا من شركتين، بحيث تكون الاربع شركات، موزعين بواقع شركتي ممتلكات وأخريتين تزاولان نشاط الحياة، بشرط أن يكون اسلوب عمل كل شركة مختلف عن الاخري، اقصد الشركات التي تزاول نفس النشاط، بمعني ان يُسمح للبنك بالتحالف مع شركتي حياة ، واحدة تزاول النشاط وفق الاسلوب التكافلي والثانية وفق الاسلوب التجاري، وهكذا الحال بالنسبة لشركات الممتلكات.
في الفترة من 2013 وحتي الان، صارت الامور بصورة طبيعية، لم يخالف اي طرف من طرفي التحالف ، هذه الضوابط او يرتكبا مخالفات تضطر بسببها الاجهزة الرقابية للتدخل مجددًا لتجميد الاتفاقات الجديدة.
هذه المقدمة الطويلة – رغم أهميتها- قد يتساءل البعض، ما الاشكالية إذًا، ألا تمثل المقدمة السالفة عرضًا لتاريخ مضي؟ أليست الأمور علي ما يرام؟ فأين المشكلة؟
دعني أدلف في الموضوع للإجابة علي السؤال الحائر، بالطبع الأمور تسير، ولكن ليس علي ما يرام – نظريًا علي الأقل- ، لأنه نتيجة المنافسة بين شركات التأمين، خاصة التي تزاول نشاط الحياة، بدأت شركات كبيرة تستأسد علي اللاعبين الجُدد، حيث لجأت – الشركات المستئسدة – إلي إغراء البنوك بمنحها عمولات تسويق كبيرة، تكاد تؤدي إلي تآكل العائد الذي تحصل عليه شركة التأمين، ومن ثم ستعود شركة التامين خالية اليدين من أية أرباح محققة من هذه القناة- اقصد الارباح الفنية-.
ليس علي البنوك أي حرج، لانها في النهاية هي تاجر أموال- او هكذا وصف لي أحد المصرفيين- وجُل هدفها تحقيق الأرباح، وحصولها علي عمولات تسويق أكبر من شركات التأمين، حق مشروع ، لايمكن منازعتها فيه.
الأسلوب الذي اتبعته الشركات الكبيرة – طواعية – التي تستأسد علي وحدات تأمين الحياة الصغيرة حجمًا، عن طريق إسالة لعاب البنوك بزيادة عمولات التسويق، أدي الي تعاظم اقساط هذه الشركات بصورة ضخمة، حتي ان احدي هذه الشركات حققت ملياري جنيه في عام واحد!!!
الرقم في ظاهره مغرِ، لكن ما العائد الفني منه ، أو الأرباح الفنية التي حققتها تلك الشركات؟ هل عائد جلب الاقساط يوازي تكلفته؟؟؟ بالطبع لايمكننا الاجابة علي التساؤل لعدم شفافية هذه الشركات بالافصاح عن حجم العمولات والعائد منها!!!!
الممارسات لم تتوقف عند هذا الحد، بل أخذت منحي جديد، بشكل دراماتيكي، عن طريق زيادة إسالة لعاب البنوك بإغراءات أخري، يعرفها القاصي والداني ، وليس هناك داع للولوج في تفاصيلها.
الرقابة المالية، دورها حماية حملة الوثائق، وكذا مراجعة العقود لضمان قانونيتها من جهة ، وانها لا تنطوي علي ما يؤثر سلبًا علي حقوق حملة الوثائق من جهة أخري، و لايمكنها منع شركات التأمين من زيادة او خفض عمولات التسويق التي تمنحها للبنوك مقابل الموافقة علي التحالفات.
لكن، الأمر تجاوز الشكل القانوني، والممارسات “المنضبطة ظاهريًا” لان المنافسة بدات تحول إن لم تكن قد حولت بالفعل ، التأمين البنكي “من منحة إلي محنة “!!!
ما العمل إذًا؟ هنا الكرة باتت في ملعب الجهات المختصة، فهي المنوطة وحدها بالتعامل مع الملف، حماية للكيانات الصغيرة من جهة، ولضمان تحقيق السوق أرباح فنية من جهة أخري، فشركات التأمين قبل ان تكون مؤسسات استثمارية، هي في الاصل مؤسسات يجب ان يكون ربحها الاساسي من التأمين، وليس من عوائد الاستثمار.، خاصة مع تآكل عوائد الاستثمار بسبب ظروف اقتصادية عالمية وليست محلية.
الأمر الكاشف ان فوائض النشاط في شركات الحياة بدأت تتآكل- فوائض النشاط وليس فقط الاكتتاب- وهو ما عرضناه تحليلًا علي صفحات مجلة خبري الاقتصادية وموقعها الالكتروني.
الرقابة المالية، لا تآلوا جهدًا لحماية القطاع، ولا تصم أذنيها عن شكوي الوحدات الخاضعة لولايتها، وهي وفقًا لإتفاقية تحرير التجارة العالمية لايمكنها ان تضع حدًا لعمولات التسويق، ودورها لاحق وليس سابق للممارسات، وتتحرك فعليًا ، لكن السؤال، هل سنترك بعض شركات التأمين الكبيرة تستأسد علي اللاعبون الجُدد او من ليس لديهم رصيد من السنوات داخل السوق ؟، ولسان حال الأخيرة يُردد ما كتبه ” الأبيوردي”- في العصر الاندلسي- بقصيدته المعنونة بـ ” أتروى وقد صدح الجندب”
رُوَيْدَكِ يا ناقُ كمْ تَذْكُرينَ .. مُناخاً بهِ اسْتَأْسَدَ الثّعْلَبُ
يَهونُ الكَميُّ بأرْجائِهِ .. ويَقْلَقُ في غِمدِهِ المِقْضَبُ
والله من وراء القصد ،