في التاسع عشر من شهر يناير الجاري أعلنت الهيئة العامة للرقابة المالية برئاسة الدكتور محمد فريد عن قرارها الصادر من مجلس إدارتها برقم 196 لسنة 2024 ، الخاص بالحد الأدني لرؤوس أموال شركات التأمين والأنشطة المرتبطة ، كلِ حسب نشاطه، القرار كان مفاجئ لسوق التأمين المصرية بكافة أطيافها وتعدد أطرافها.
نعلم أن الغاية من زيادة الحد الأدني لرؤوس الأموال نبيلة والمقاصد صادقة ، وهو دعم الملاءة المالية لشركات التأمين تحديدًا ، التي سأركز عليها في المقال تجنبًا للإطالة قدر الإمكان.
لا يماري إلا جاحد أن الرقابة المالية قطعت أشواطًا طويلة ولازالت في دعم سوق التأمين بغية تعزيز مكانتها بين الأسواق الأخري علي الأقل العربية والإقليمية ، وصدور قانون تأمين جديد دليلًا دامغًا علي هذا الجهد الذي بذلته الإدارة الحالية أو السابقة للرقابة المالية بمعاونة محمودة وصادقة من اتحاد شركات التأمين المصرية – الاتحاد المصري للتأمين- سواء الإدارة الحالية أو السابقة أيضًا.
دخولًا في الموضوع دون اسهاب ، قانون التأمين الموحد الصادر برقم 155 لسنة 2024 وصدق عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في يوليو 2024 ، نص علي أن يكون الحد الأدني لرؤوس أموال شركات التأمين 250 مليون جنيه ، و ان يتم زيادة هذا الرقم بقيمة 50 مليون جنيه في حالة ممارسة شركة التأمين فرع من الفروع الثلاثة التالية ، الطيران ، البترول ، الطاقة ، بمعني ان شركة تأمين الممتلكات التي تمارس الأنشطة الثلاثة مطلوب ان لايقل رأسمالها في حده الأدني عن 400 مليون جنيه ، وهو استثناء لان أغلب شركات التأمين لا تزاول نشاط البترول والطيران ولهذا أسبابه التي لا مجال الخوض فيها حاليًا.
بداية ، هل يعلم الدكتور محمد فريد ان شركات تأمين اختلط عليها الأمر ولايزال في الفرق بين تأمين البترول وتأمين الطاقة ، ولهم كل الحق ، لأن البيانات الرسمية الصادرة من الرقابة المالية التي يرأس مجلس إدارتها الدكتور فريد لا تتضمن اية اشارات إلا لتأمينات البترول ، ولا يوجد فرع تأميني محدد يسمي بتأمين الطاقة ، ومن ثم كان من الأولي ان يتم تعريف تأمين الطاقة أو ماهيته ، هل المقصود تأمين محطات الكهرباء؟ واي تغطية تنضوي تحت الطاقة هل الانشاءات ام التشغيل ام ماذا بالتحديد؟
عمومًا هذه ملاحظة شكلية قد لا تسمن ولا تغني من جوع ، لكن ما ليس شكلي هو جوهر القرار نفسه ، اي قرار زيادة الحد الأدني لرؤوس الأموال الي 400 مليون جنيه لكل الشركات بدلا من 250 مليون جنيه التي نص عليها القانون الصادر قبل بضعة أشهر وليس منذ سنوات، واذا مارست شركة تأمين الممتلكات فروع البترول و الطيران و الطاقة عليها ان تضمن ان لا يقل الحد الأدني لرأس المال عن 550 مليون جنيه.
الأعجب من ذلك انه مطلوب ان يتم الوصول لهذا الرقم في خلال عام من صدور القرار اي نهاية العام الحالي 2025 !، والأكثر عجبًا ان يتم رفع الحد الأدني الي 600 مليون جنيه لكل الشركات نهاية 2026 !!، ومعني ذلك ان يرتفع في الشركات التي تمارس فروع البترول والطيران والطاقة الي 750 مليون جنيه ، وهو رقم يقترب من الحد الأدني لرأسمال شركة إعادة التأمين الذي نص عليه قانون التأمين الموحد.
الآثار الجانبية للقرار المباغت بزيادة الحد الأدني لرؤوس أموال شركات التأمين الي 400 مليون جنيه
أسلفت في بداية المقال ان غاية رئيس الرقابة المالية الدكتور محمد فريد وإدارته ، نبيلة وسامية ، لكن قد يكون غاب عنه بضعة أمور ، أولها ان عدد لا بأس به من رؤوس أموال الشركات بعضها باستثمارات أجنبية أقل من 100 مليون جنيه ، أي مطلوب منها ان تضاعفه أربع مرات في 12 شهر ؟! .
الرقابة المالية منعت الشركات من التصرف في أية أرباح نقدية علي المساهمين حتي يتم توفيق أوضاعها مع قرارها الجديد الخاص بالحد الأدني لرؤوس الأموال ، وهو تصرف محمود ومبرر ولا يمكن نقده او حتي مناقشته ، لكن ما يجب مناقشته أمورًا ذات أهمية أكبر ، دعني أسرد بعضها لضيق المساحة.
الرقابة المالية تعمل علي ضبط ايقاع السوق وتقنين ممارساته من خلال اجراءات عدة وقرارات عديدة منها الربط الالكتروني الذي قد نفرد له مقال في وقت اخر.
لكن هل يعلم الدكتور محمد فريد ماذا قالت سوق التأمين بعد صدور القرار ؟ هل يعلم رئيس الرقابة المالية ماذا ستفعل الشركات؟ – لاسيما وأن اي مساهم لكي يضخ جنيه في رأس المال لابد وأن يضمن مقابله جنيه أرباح علي الأقل- أظن أن الإجابة هنا في بطن الشاعر، هل يعلم الدكتور فريد وإدارته ماذا يتم في السوق علي الأرض؟
دعني أخبرك ببعض ما يقال في الغرف المغلقة ، ليس من قبيل إفشاء الأسرار لأن الممارسات التي تتم علي الأرض والتي تؤكدها بيانات شركات تأمين تجعل من السرِ علن ، والنصيحة في العلن ليست فضيحة في كل الأمور.
دكتور فريد ، أعلم انك اتخذت خطوات كبيرة واجريت وفريق إدارتك حوارًا مجتمعيًا مع سوق التأمين ، لكن ما لا تعلمه ان هناك وجهات نظر لم يطرحها اصحابها عليك في العلن ، ليس خشية منك أو نائبك او حتي الإدارة العليا ، ولكن خشية بعض ممن ينصبون أنفسهم حُراسًا علي السوق ، وملكيين أكثر من الملك نفسه ، وأؤكد لك ان القاعدة القانونية التي تقول ” متي وُجد الرضي انتفي الضرر” لا تصلح في كل الأحوال ، لأن هناك ضرر للأسف يتم قبوله علي مضض لأسباب ليس هذا مكانها.
الضجر يكمن في النفوس ، ودعني أؤكد لك ان أكثر من 50% من الشركات التي تقل حدودها الدنيا عن 400 مليون جنيه لن تصل الي هذا الرقم مع نهاية العام الحالي والأيام كاشفة، ووقتها لا يمكن للهيئة ان تتخذ اي اجراءات معها ليس خوفًا منها ولكن لأن الملاءة المالية لهذه الشركات لا تسمح لها بأن تصل الي هذه الأرقام في تلك الفترة القصيرة جدًا ، لاسيما وأن نتائجها جيدة بعض الشيئ.
السوق علي أرض الواقع في ضوء زيادة رؤوس أموال شركات التأمين
دكتور محمد فريد ، اسمح لي ان احيلك الي البيانات الصادرة عن الهيئة التي ترأسها وهي الجهة الرقابية الوحيدة عن سوق التأمين ، وأرجو فضلا أن تكلف أحد الخبراء الذين تمتلئ بهم أروقة الهيئة بإجراء مقارنة بسيطة بين الأقساط المباشرة لكل شركة تأمين ورأسمالها المدفوع ، أؤكد لك أنك ستفزع من النتائج.
دعني أسبق من تكلفه بهذا التحليل- إن تفضلت بذلك- لأننا اجريناه ونشرنا بعضه ، هل تعلم ان هناك شركات تأمين رؤوس أموالها لا تتجاوز 100 او 150 مليون جنيه وأقساطها المباشرة تتجاوز 7 و 8 مليار جنيه اي أن كل رأس المال يوازي نحو 1.5 الي 2% من الأقساط ؟ وهذا ليس عيب علي إطلاقه ، وهناك شركات رؤوس أموالها تصل الي نصف مليار جنيه وأقساطها مليار جنيه اي ان رأس المال يوازي 50% من الأقساط؟ وهذا ايضا ليس ميزة مطلقة.
إذا تكرمت فضلًا ان تكلف أحد الخبراء في الهيئة بإجراء تحليل عن الوزن النسبي لكل فرع تأميني في كل شركة من اجمالي الأقساط المباشرة ، اجدد تأكيدي أنك ستفزع من هذه النتيجة ايضًا ، وهي ان هناك شركات أكثر من نصف محفظتها يتركز في فرع تأميني واحد!!!!.
دكتور فريد ، ِزد من كرمك وكلف خبيرًا أخر بقياس مؤشر التسعير في كل شركة تأمين ، سوف تفاجئ بأن اسعار التأمين لم تشهد زيادة بل علي العكس ستجد ان اسعار التأمين في فروع معينة تشهد انخفاضًا يشيب له الولدان ، صحيح ان الأقساط ارتفعت وترتفع سنويًا بشكل كبير ، لكن هذا لا يعني زيادة الأسعار بل زيادة الأخطار وهناك فارق كبير بين كلاهما ، أعلم أنك تعرفه ويعرفه أهل الاختصاص.
معالي رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية ، لا يمكن ان ننكر جهدك وفريق إدارتك ، وغايتك واياهم النبيلة ، لكن الممارسات السعرية في السوق بلغت مداها ، وينطبق عليها القول ” بلغ السيل الزبى فطحل” ، كما ينطبق عليها قول الشاعر ” إن النوق أن صرمت فلم تجد لها لبنا ولن تجد لها ولدا “.
هل تعلم سيادة رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية ماذا تفعل شركات تأمين؟ ستلجأ الي الممارسات السعرية بصورتها السلبية – وستجد لنفسها من المبررات ما يكفي تبرئتها – بغية تحقيق أكبر حصيلة من الأقساط بهدف الاستفادة من عوائد استثمارها وتعزيز مؤشر الربحية الكلية حتي وإن كان علي انقاض العوائد الفنية ، بما يضمن توفير سيولة للتوافق مع الحد الأدني لرأس المال ، وهنا لن تجد محاولات ضبط السوق نفعًا وسوف يتسع الفتق علي الراتق.
هل يعلم رئيس الرقابة المالية ان مستثمرين أجانب خصوصا من المساهمين في شركات تأمين حالية يتواصلون مع الإدارات التنفيذية ليس للاستفسار عن سير العمل او نسبة تحقيق الخطة ولكن للتساؤل عن اية قرارات مفاجئة صادرة من جهة الرقابة؟ اذا كان هذا حال مساهمين في شركات قائمة، فما بال المستثمرين الأجانب التي تسعي الرقابة المالية الي جذبهم للاستثمار في سوق التأمين المصرية التي تعد من أفضل الأسواق وأنشطها وتعد تربة خصبة لمعدلات نمو هائلة ، نمو حقيقي لا يعتمد مؤشره علي حصيلة أقساطه لانه مؤشر ليس حقيقي ولذلك دلالالته التي لا أريد ان اصدع عقلك بها.
هل الصورة قاتمة إلي هذا الحد؟
دكتور محمد فريد رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية ، هل يمكنك ان تخرج لنا بتصريح مقتضب تقول فيه ان اسعار التأمين في مصر ارتفعت بنسبة كذا؟ للاسف الشديد القطاع ربما الوحيد الذي لم يشهد زيادة في اسعاره هو التأمين رغم زيادة معدل التضخم وان جزء ليس بالهين من ارتفاع الأقساط جاء بسبب إعادة تقييم أصول او تحرير سعر الصرف ، وجزء اخر جاء بزيادة الاخطار وليس الأسعار كما اسلفت وشركات التامين لها عذرها في ذلك.
هل يمكن للسيد رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية أن يخرج لنا ببيان رسمي عن مؤشر النسبة المُركبة أو المعدل المجمع أو النسبة المشتركة او ما يسميه أهل الاختصاص بالـ Combined Ratio لكل شركة تأمين !!! لن أقول لك النتيجة وأدعوك لاكتشافها بنفسك لتعرف حال السوق علي الأرض وليس بناء علي مؤشر الأقساط التي رغم ضخامتها لم ترفع من مساهمة التأمين في اجمالي الناتج القومي او تزيد من نسبة الاختراق في السوق ولهذا اسبابه التي لن أصدعك بها رفقًا بوقتك.
مهلًا معالي رئيس الهيئة ، الصورة ليست قاتمة الي هذا الحد ، ولست من المؤمنين بفلسفة شوبنهاور التشاؤمية ، ولكني لست من الحالمين أيضًا بمدينة أفلاطون الفاضلة ، لكن هناك حلولًا براجماتية يمكن اللجوء لها ” إن أرادت الرقابة المالية ذلك ” ، وبالطبع أنتم أعلم بالسوق من كاتب المقال ، لانني أكتب كمتابع ولست مطلع علي أدق التفاصيل ولا أملك البيانات التي يمكنك الحصول عليها ممن تشاء ووقتما تريد.
حلول مقترحة لمعالجة أزمة الزيادة المفاجئة في الحد الأدني لرؤوس أموال شركات التأمين
هناك حلول من وجهة نظر الكاتب بصفته متابع ، قابلة للرد أكثر من الأخذ ، لكنها قد تكون نواة لفتح افاقًا أوسع لصانع القرار وهو الرقابة المالية.
اولًا ، ماذا يمنع الرقابة المالية من إصدار قرار تنفيذي او ضوابط بتنويع محفظة العمليات في شركات التأمين بحيث تضع حد أقصي للإكتتاب في كل فرع تأميني من إجمالي المحفظة؟ وما يتم علي شركات الممتلكات ينسحب علي الحياة مع الأخذ في الاعتبار طبيعة كل نشاط بالطبع.
هذا الحل سيضمن تنويع محافظ العمليات ومن ثم تفتيت الخطر وايضا استمرار النمو مع ضمان استدامته ، والأهم ان الشركات ستكون أمام خيار وحيد وهو انتقاء الخطر ومن ثم ضبط مؤشر التسعير وهي الغاية الأهم التي بُحت الأصوات لها.
ثانيًا: ماذا يمنع الرقابة المالية من إصدار قرار بإعادة نسبة من العمليات داخليًا؟ حقيقي سوق التأمين تفتقد لشركة إعادة تأمين وهذا ليس وقت الخوض فيها حتي لا نتجرع الآلم الذي لاتزال السوق تتجرعه منذ وأد المصرية لإعادة التأمين ، لكن رخصتها لازالت في مصر للتأمين ، لكن المهم أن تصدق النوايا ، وتوضع الضوابط التي لا تجعل من مصر للتأمين خصم وحكم في ان واحد.
بالمناسبة هيئة التأمين السعودية اصدرت قرارًا بدا تنفيذه يناير الجاري ، يلزم الشركات بإعادة 30% كحد أدني من عملياتها داخليا ولمعيد التأمين – وتقصد هنا شركة السعودية لإعادة التأمين – أن تقبل او ترفض الخطر المعروض عليها، وهنا تكمن أهمية القرار ، أن الشركات ستضطر الي قبول الأخطار باسعار مقبولة وعبر تقييم فني عادل والنتيجة تعظيم الربحية الفنية ، وهو الهدف الأهم لنشاط وصناعة التأمين ، لأن الحماية مقدمة علي الاستثمار مثلما درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع .
ثالثًا : ماذا يمنع الرقابة المالية من اصدار قرار بوضع حد أدني وليس أقصي للأسعار ؟ واذا كان هذا يتعارض مع الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات GATS ، يمكن ان يصدر قرار يضمن سلامة الاكتتاب عن طريق ربط رأس المال بالمخاطر المكتتبة او ما يعرفه أهل الاختصاص برأسمال المخاطر.
أخيرًا وليس أخرًا لا ننكر علي الهيئة العامة للرقابة المالية برئاسة الدكتور محمد فريد ونائبه الدكتور اسلام عزام وباقي فريق الإدارة جهودها ، ولا علي اتحاد شركات التأمين المصرية – الاتحاد المصري للتأمين سابقًا- تحركاته ، التي تهدف الي إعادة احياء سوق التأمين ووضعها في المكانة التي تستحقها ، لكن للاسف ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ، وسوق التأمين ليست مؤهلة – ودعك من التصريحات الرنانة- للإندماج او الاستحواذ الذي يتخيله البعض فالأمر معقد وليس بالسهولة التي يتصورها البعض الأخر.
سؤال أخير ليس له علاقة بالموضوع ولكن له اشارات تؤكد الفقرة السابقة ، ماذا فعلت الهيئة بشأن تصفية وثائق تأمين المتحدة للتأمين؟ ماذا فعلت الهيئة بخصوص شركة ميدغلف التي تم منحها مهلة عامين لتوفيق أوضاعها ثم لم نسمع تصريحًا بشأنها حتي الأن؟
معالي الدكتور محمد فريد ، أعلم ان صدرك رحب وان اذانك تنصت جيدًا وعقلك يهضم ما يُكتب ، لاسيما إن كانت نوايا كاتبه صادقة ، فلا نريد إلا سوق تأمين قوي ، نتباهي به بين الأسواق وهو ليس منة أو فضل ، بل حق سوق التأمين المصرية التي تعد من أعرق أسواق التأمين في المنطقة.