بعضٌ وليس كل شركات التأمين في السوق المصرية، تضرب حاليًّا أخماسًا في أسداس، لأسباب مرتبطة بالصعوبات التي واجهتها في تجديد اتفاقيات إعادة التأمين مع الأسواق الأجنبية للعام الجديد .
قبل الدخول في التفاصيل، أعلم أن شركات تأمين –كعادتها- ستلومنا بسبب مكاشفتهم رغم صدقه، وهو أمر غير مُستحب لديهم بالطبع، ولكن سنحسب كعادتنا ملامتهم -كما أسلفنا- وليدة شجن أو شجون في أنفسهم جراء تلك المكاشفة، وبطبيعة الحال لا نملك لهم دفعًا ولن نلومهم، حتى وإن كان مناط المؤاخذة لدينا، إنهم لا يدركون أن مرارة الدواء مهما كانت قسوته إلا أن نتائجه الإيجابية أفضل كثيرًا من مسكنات لم تُسمن ولن تُغني عن جوع، بل سيزيد آلمهم ألمًا في قابل الأيام، ووقتها لن يجدوا شيئًا تركوه بعد أن يفقدوا كل ما أدركوه.
ظروف اقتصادية وسياسية ليس للإدارة المصرية يدًا فيها أو جريرة ارتكبتها حيالها
على أية حالِ، وولوجًا في الموضوع دون إسهاب رغم أهميته، قرر البنك المركزي المصري رفع الفائدة على الإقراض والإيداع بنسبة 2%، وهناك شُح في السيولة الدولارية، يراه أعمى البصيرة بسبب ظروف اقتصادية وسياسية ليس للإدارة المصرية يدًا فيها أو جريرة ارتكبتها حيالها، كتلاطم أمواج الأخطار الجيوسياسية مع جائحة كورونا، متقاطعتين حينًا ومتشابكتين أحيانًا لكنها -أي الظروف الاقتصادية- باتت أمرًا واقعًا بحكم الضرورة، ومن الضرورة أيضًا التعامل معها بالأدوات المتاحة مهما كانت قسوتها اقتصاديًّا ومجتمعيًّا.
هناك ارتباط كبير بين زيادة سعر الفائدة وشُح السيولة الدولارية، بالنسبة لشركات التأمين، فأما الأولى فستؤدي إلى لجوء العملاء الذين تستهدفهم شركات التأمين إلى أحد أمرين -من وجهة نظري بالطبع- إما استثمار فرصة رغبة شركات التأمين في تحقيق مستهدفاتها من الأقساط- رغم رفضي أن يكون القسط كرقم هو الهدف الذي تلهث وراءه شركات تأمين للتباهي به- فيتحول العميل إلى فاعل في جملة التأمين، وتصبح الشركات مفعولًا به، بمعنى أن يفاوضها أو بمعنى أدق يساومها إما زيادة التغطية التأمينية بنفس الأسعار القديمة أو إلغاء التغطية برمتها، وهنا أقصد العميل الذي يملك سجلًا تأمينيًّا خالٍ من الخسائر.
وأما الأمر الثاني أو السيناريو المحتمل، فهو لجوء بعض وليس كل العملاء، ممن ضاقت بصيرتهم إلى إلغاء بند التأمين كليًة رغم أهميته بل وضروريته المقدمة عن الاحتياجات الأساسية، وهناك أسباب لا داعي لمناقشة تفاصيلها لضيق المساحة.
سياسة الأمر الواقع
أحسب أن لشركات التأمين مبررات تجعلها مضطرة لقبول سياسة الأمر الواقع، ولن ترفض شروط العميل -للأسف أصبح العميل هو مَن يشترط، خاصة مَن يشفع له تاريخه التأميني- طمعًا في جمع حفنة ملايين من الجنيهات، للاستفادة من عوائد استثمارها، لاسيما بعد رفع سعر الفائدة على الإيداع، وهذا مبرر بالطبع شكلي، فهناك مبررات كامنة لو عرجنا عليها سننكأ جراحًا موجعة.
قد يتساءل البعض، ما ذكرته بات مستهلكًا، فلا يوجد رابط بين سعر الفائدة وبين شح السيولة الدولارية؟
لن نجيب إلا بطلب التأني مهلًا، فبالطبع لا يوجد رابط لمن أعيت بصيرتهم الحيل، ولكن الارتباط وثيق بين كليهما، وللإيضاح أكثر، شركات التأمين أو معظمها انتهى من تجديد اتفاقيات الإعادة مع الأسواق العالمية، بعضها تجاوز هذا الاختبار بمزايا أفضل نسبيًّا، وبعضها اجتاز ولكن بدرجات الرأفة، وبعد تعثر كمن تلد ابنًا بِكرًا قبل موعده.
شركات الإعادة لم تجد أمامها إلا التدخل في تفاصيل فنية كانت بعيدة عنها، رغبة في تصحيح سياسات اكتتابية اكتوت بنارها مرارًا، فلا هي استفادت من عوائد استثمار الأقساط، ولا قيمة نصيبها من الأقساط، بعد تقويمه بالدولار بات مغريًا، خاصة بعد تحرير سعر الصرف.
في المقابل، هناك صعوبات تواجه شركات في تدبير العملة الصعبة لسداد حصص معيدي التأمين التي تآكلت بطبيعة الحال بعد تحرير سعر الصرف، نظرًا لشح السيولة الدولارية، وهنا لن تجد شركات الإعادة أمامها إلا أحد أمرين، إما التلويح بإلغاء الاتفاقيات في حالة عدم التزام الشركات بسداد أقساط الإعادة، أو على أقل تقدير فرض شروط فنية مُكلفة لشركات التأمين.
الخيار بين أمرين كلاهما مُر، فشركات التأمين لم تتخاذل عن سداد أقساط الإعادة، وشح السيولة الدولارية ليس لها يد فيها، وهنا أقصد شركات تأمين ليس لديها وعاء ادخاري بالدولار، أو لديها تعاملات مع عملاء أجانب -أفرادًا وشركات- بعملة بلادهم، وذلك بعد استنفاد المتاح مثل إجراء مقاصة بين نصيب معيدي التأمين من الأقساط وحصته من فاتورة التعويضات.
فقه الأولويات في تدبير السيولة الدولارية
البنوك مضغوطة وتعمل بفقه الأولويات في تدبير العملة -كما هو مُعلن وليس سرًّا بخافٍ على أحد- فإذا كان قطاع التأمين مهم، لكن هناك قطاعات أكثر أهمية منه مرحليًّا وليس بصورة دائمة بالطبع، ولن ترفض البنوك تدبير العملة لشركات التأمين، ولكن بعد فترة من وضعها على قوائم الانتظار، وهو أمر مكلف لأنه سيعني التأخر في سداد حصص الإعادة، وأسلفنا نتائج هذا التأخر غير المتعمد من الشركات.
في المقابل، النتائج الفنية في شركات تأمين -أقصد فوائض الاكتتاب وليس النشاط- ليست على ما يرام، بسبب ممارسات سعرية لا يعلم أحد سبب التشبث بها -أو هكذا نتظاهر بعدم وجود تفسيرات-، فإذا كانت غاية مساهمي الشركات هي الأرباح، فلماذا العجلة لدى بعض الإدارات التنفيذية لإضافة أرقام على يمين معادلة الأقساط المباشرة، دون أن يتم ترجمتها إلى أصفار مماثلة على يمين معادلة الفائض، خاصة المرتبطة بالاكتتاب وليس بفائض النشاط؟
تراقص علي نغمات فلسفة شوبنهاور التشاؤومية
هل الصورة قائمة إلى هذا الحد؟ الإجابة ليست هكذا، ولن نتراقص على نغمات فلسفة شوبنهاور التشاؤمية بل سنكون أكثر تفاؤلًا -أو هكذا نظن-، فكل محنة يكمن فيها منحة، بمعنى أن شركات التأمين عليها الآن، ليس الاتفاق على عدم الاتفاق، بل أن تطوي جراح المنافسات السعرية، وأن تلتزم بالسياسات الاكتتابية التي تجعلها قادرة على تغطية الخطر بسعره الفني العادل.
السعر العادل يعني أن شركة التأمين قادرة على تحقيق وفورات فنية، ومن ثم سيستفيد معيد التأمين منها، ما يشجعه على تعضيدها ومؤازرتها وقت الأزمات، مثلما الآن، قد يقبل بسداد حصته بالآجل بعد تدبير العملة الصعبة، لكن بعد التأكد من أن فاتورة انتظاره ومؤازرته ليست جُرحًا غير مندمل.
السعر الفني العادل سيضمن لشركة التأمين من الناحية الأخرى، فُسحة لدراسة تغيير برامج الإعادة نفسها بعد الاطمئنان لسلامة الاكتتاب، وزيادة نسب الاحتفاظ -وفقًا للقواعد المعروفة سواء الفنية أو المالية بالطبع-، ومن ثم الاستفادة من عوائد استثمار هذه الأموال، والحد من تصدير الأقساط بالعملة الصعبة.
السعر الفني العادل، سيُمكن شركة التأمين من توفير الخدمة المطلوبة للعميل أو قل تحسين ما توفره، من خدمة، وكما يعلم جميعنا أن سداد التعويض بوتيرة أسرع طالما اتفق وشروط الوثيقة هو أسمى ما يبتغيه العميل، وعنوان شركة التأمين الذي يجب أن تتباهى به لا بأقساط الخطر الذي تغطيه.
لن أدخل في جدلية لها علاقة بأن بطء التعويضات يكون العميل نفسه جزءًا من أسبابه، فهذا حقيقي ولكن في الظروف الاستثنائية وليست الطبيعية.
خلاصة القول وصفية البيان
أبعد هذا مازالت متسائلا عن ماهية العلاقة بين رفع سعر الفائدة وبين شُح السيولة الدولارية؟ إذا فطنت للعلاقة، أظن أنك ستتأكد أنه لا معنى من أن يجأر سوق التأمين، لاسيما أن شركات فيه، هي سبب ما يعانيه بكل معانيه.
أما إذا لم تُدرك أن هناك علاقة بين زيادة سعر الفائدة من جهة وعدم وفرة السيولة الدولارية وتأثيرات ذلك على صناعة التأمين من جهة أخرى، سأدعوك هنا لأمرين، الأول أن تطرح ما قرأته في السطور السابقة جانبًا، والثاني أن تجلس في المقاعد الأمامية المخصصة للمتابعين، متفرجًا على الأيام الحُبلى بالمشاهد المُكررة في مُسلل أعيد إنتاجه دون جدوى، ليظل الكتاب مفتوحًا أمام طالبِ غير نجيب، يلوم مَن يكاشفه بأخطائه، لكن مَن يكاشفه سيظل هكذا يملك لهم دفعًا دون ملامة، حاسبين أن ملامتهم وليدة شجن وشجون في أنفسهم، جراء المكاشفة.