حُلمه منذ عامه السابع، أن يمتلك حجرة صغيرة تطل على الزراعات، حتى إذا اشتهى القيلولة في جو العصر الخامل، وجد متنفسًا، اضطُر أن يحيا بغير إرادته، ولم يجنِ من ذلك غير بؤس الحياة وضنكِها.
أصبح سليمان للبؤس في مغناه تائها، وكأنه لم يكن بالأمس مغناه ! – كما قال إيليا أبو ماضي في قصيدته “الفراشة المُحتضرة”- فهو الأصغر بين أشقائه السبعة، ورغم أنه أصغرهم لكنه أنضجهم.
الأم الخانعة
أخطأ أبوه جَهلًا، من دون معارضة الأم الخانعة التي تتلقى صفعات تُعطي بها دروسًا في الخنوع لأبنائها ذكورهم قبل إناثهم، واعتقد الأب الذي يعمل أجيرًا عند الأعيان وأصحاب الأملاك، أن كثرة الأبناء عِزوة.
دموع الأم تنهمر علي وجنتيها صباح مساء، والحزن يُكحل عينيها ، فالأب قاسٍ ولا يتحمل المسئولية، وهي لا تريد حُبًا من زوجها لأنه بات رفاةً، بل كل ما تطمح له الاطمئنان لوجود لقيمات تسد رمق صغارها، لكن هذا الطموح بات كالحُب أيضًا.
أبواب موصدة
ماذا أفعل؟ ولمن ألجأ؟ هكذا سألت سُعاد نفسها، أهلها يرفضون ذهابها لهم غاضبة، فتقاليد قريتها، أن البنت حينما تخرج من عند أبيها تذهب إلى أحد مكانين، إما لبيت زوجها، وإما قبرها، وكلاهما لا يختلف عن الآخر كثيرًا، لأن الروح لم تعد ساكنة الجسد.
بقدر حرمان الزوجة المكلومة من طعم الأمان، وظمئها الدائم للُحُب، بقدر ما روت أبناءها مشاعر القسوة حينا والكُره أحيانا تجاه الأب.
قلوب الأبناء جميعًا، باستثناء سليمان، باتت تُربة خِصبة، نبتت فيها بذور الذُل، فطرحت ثمارًا معطوبة، كلها قسوة على الأب الذي أنهى عامه الخمسين ونيف.
حاولت الأم لململة جراح نفسها، استدانت من هذا، وعملت أجيرةً في أرض هؤلاء، وجُل حلمها أن ينهلوا من العِلم ما استطاعوا، ليس فقط لمؤازرتها، بل ليعوضوا ما فاتهم من سنوات أضيفت لسجل أعمارهم، وخُصمت من رصيد سترهم.
لملمة جراح الأسرة المهلهلة
شق الابن البِكر طريقه، وحصل علي ليسانس الحقوق، وتخرجت شقيقته من الصيدلة، والثالث والرابع اكتفيا بالمؤهل المتوسط، أما البنتان الخامسة والسادسة، لم يكن التعليم في سُلم أولوياتهما، لكن سليمان كان ذا طموح مختلف، كشخصيته، يريد أن يلملم جراح الأسرة المهلهلة، ويعيد فيها غرس بذور المحبة بين أشقائه وأمه من جهة، وأبيه الذي بات معزولًا من جهة أخرى.
كافح بعِزة نفس، لم يخجل من العمل أجيرًا في الأرض التي يمتلكها آباء زملائه في المدرسة، ورغم سخافاتهم، لكنه تحملها، حتي لا يكون عبئًا على أمه بل سندًا لها.
وبينما تتناول الأسرة طعامًا طيبًا في الطابق الثاني من المنزل المكون من حجرتين، يئن الأب لشِدة المرض الذي أصاب صدره، ولا يجد من يحنو عليه، لكنه كان راضيًا بعد أن استوعب الدرس، وتيقن أنه أخطأ في حق أسرته، طالبًا منهم الصفح دون مُجيب.
في منتصف الليل، وبينما الأم والأبناء يغطون في نوم عميق، لم يجد الفتى أمامه سوى أن يتسلل متجهًا سرّا نحو أبيه، ليعطيه دواءً اشتراه من النقود التي ادخرها من عمله، ونصيبه من اللحوم الذي وزعته عليهم أمهم في وجبة العشاء.
نبوغ سليمان في كلية الآداب
التحق سليمان بكلية الآداب، قسم اللغة الفرنسية، ذاع صيته لنبوغه الذي بات معتادا لأترابه، حتى أن أبناء قريته كانوا يلقبونه بالدكتور.
أعجب بزميلته، فبادلته نفس المشاعر، لم يصارحها طوال سنوات دراسته، لأن العوز والحُب لا يجتمعان من وجهة نظره، ورغم رسائلها الضمنية له بأنها ستتحمل فقره، لكنه كان صلدًا في تعبيراته، تظاهر بتجاهلها رغم أن قلبه يتمزق، عسى أن تكرهه رغم شِدة ولعه بها.
في اليوم الأخير من الدراسة، انتظرها خارج قاعة الامتحان ليودعها على أمل اللقاء، بكت جهرًا وقلبه يعتصر ألما.
سافر إلى القاهرة للعمل في مصنع للكيماويات لحين ظهور النتيجة، ظن أنه سيُعين معيدًا، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، فلم يكن ضمن المحظوظين لأسباب اجتماعية، ليشعر بالموت ضعفًا للمرة الثانية.
طريق أخر
رفض سليمان العودة لقريته، أو العمل مُدرسًا للغة الفرنسية رغم مهارته، اختار طريقًا آخر يضمن به أمرين، أولهما الوصول لمكانة اجتماعية تُعادل مكانة أستاذ الجامعة، والثاني ادخار مال يمنحه قُبلة الحياة مع آخر أمل له فيها بخِطبة حبيبته، امتهن مجال الإعلام المرئي.
وصل الليل بالنهار، انقطع عن الدنيا كلها باستثناء أهله، وبعد ثلاث سنوات استطاع توفير ما يكفي لاستئجار منزل يبدأ فيه حياته مع من عاش لأجلها، وبذكرياتها التي كانت له معضدًا لأوجاع غربته.
لم يفاتح أهله فيما هو عازم عليه، حتي لا يعرضهم للإهانة من أهل قلبه النابض، ظل أسبوعًا يبحث عن رقم هاتفها بين أصدقائه القاطنين بجوارها، حتي وجده، اختلي بنفسه بعيدًا عن زملائه في العمل، ليحدد موعدًا لزيارة أهلها.
مكالمة مؤلمة
لم يكن صوت رنات الهاتف أعلي من صوت قلبه، الذي كاد أن يَسمع كل من حوله نبضاته، وكأنه لم يعرفها من قبل.
“ألو” كانت كلمتها الأولي، مصحوبة بتساؤل عن هوية المتصل؟ أجابها بأنه سليمان، رحبت به بحرارة، وقبل أن يتحدث، قالت له “كنت أبحث عنك وفشلت في الوصول إليك”، رد عليها “لم أذق طعم الراحة طوال السنوات الثلاث الفائتة حتي أصل لهذه اللحظة”، وقبل أن يُكمل، فاجأته بأنها تدعوه لحضور حفل خِطبتها من ابن خالتها الطبيب.
اهتزت الأرض من تحته، حاول لملمة مشاعره دون فائدة، أغلقت الهاتف وهو يشعر أن أنفاسه باتت ثقيلة بين ضلوعه، تغيرت ملامحه، وتبدلت حالته من التفاؤل إلي الزهد في الدنيا بما فيها.
مرت سنون لم يعرف عددها لرتابة أيامها، تقدم بعدها لخطبة فتاة تعرف عليها عبر صديق، طمعًا في الاستقرار النفسي، لم يكن راغبًا في الزواج، فمتاع الدنيا جُلها لن يغنيه عمن أحبها، وافقت الخطيبة عليه ظنًا منها أنها ستعيده لحياته الأولي، التي كان فيها متعبدًا كما علمت من أصدقائه.
إنشغال الأسرة
تواصل مع أسرته عبر الهاتف، وفاتحهم في أمره، طالبًا منهم مرافقته في جلسة التعارف، خذلوه كعادتهم وتركوه وحيدًا كعادته، متذرعين بانشغالهم في حيواتهم، فطلب مهاتفة أبيه المريض، فادّعوا نومه.
تزوج سليمان دون مشاركة أهله، وهو يتساءل في نفسه عن سبب هذا الجحود؟ رغم أنه لم يتأخر يومًا عن خدمتهم؟
بعد عامين، أثناء ذهابه مع زوجته لزيارة شقيقها، فوجئ برجل طاعن في السِن، يتسول من المارة، بصوت متحشرج، اقترب منه، ليتعطف عليه ببعض النقود، ويا ليته ما فعل، فما إن اقترب منه إلا أن اكتشف أنه أبوه!!!!.
حاول الشاب تضميد جراح أبيه النفسية، وكأن قلبه كُتب عليه أن يتمزق بدلًا من المرة ألفًا، ليكتشف بعد ذلك أن أمه وأشقاءه طردوه من المنزل لأنه عبء عليهم، بل ورفع شقيقه الأكبر الذي يعمل محاميا، دعوى حجر، مشككًا في سلامة قواه العقلية.
الأب يتسول الحُب وليس النقود
القدر كان رحيمًا بالأب، الذي مات بعد سويعات من لقاء ابنه الحنون، وكأنه كان يتسول مشاعر الحُب وليس النقود، وما إن وجدها حتى هدأ قلبه واستراحت نفسه.
تفوق سليمان في عمله، لم يُشبع نفسه الحائرة، وزواجه التقليدي لم يمنعه من التفكير فيمن أحبها ولايزال، ليس خيانة لمن تزوجها التي صارحته ذات مرة أنها لم تحبه، وأنها وافقت علي الارتباط به عسي أن تعيده لحياته الروحية الأولي.
صراحة الزوجة، رغم قسوتها، إلا أنه تحملها، ليس لتعلقه بها، وإنما لكي لا يكون سببًا في تشويه نفس طفليه، كما تشوهت نفسه، وكأنه كُتب عليه الشقاء، فلا حلمه في الاستقرار اكتمل، ولا جُرح حبه الأول اندمل.