التأمين أو صناعة التامين، ليست مصطلحات تلوكها الألسنة دون أن يفهمها الكثيرين، وينبري بسببها الكُثر، إعتاد البعض أن يقدم التأمين كمادة جافة ، وكأن هذه الصناعة جمادًا خاليًا من الروح.
ستسعي مجلة خبري الإقتصادية– بجانب تحليلها للمعلومات الجافة لرسم صورة كاملة للمتخصصين- إلي إكتشاف الجانب الأخر من هذه الصناعة، وهي روحها الحقيقية، فلا يعلم الكثيرين أن عدد ليس بقليل من الممتهنين للتأمين، ليسوا خريجوا الكليات التي تُدرس هذا العلم، والأكثر من ذلك أن عددًا أخر إمتهنها صُدفة، وفريق أخر كان يظن أن العمل في هذه المهنة أحد المستحيلات السبع ، ومع ذلك تحول بين ليلة وضحاها إلي أحد المدافعين عنها بشراسة لغيرته عليها.
من هي هذه النماذج؟، وما اغرب المواقف التي تعرضوا لها؟ وكيف دخلوا هذه المهنة من الأساس؟ وما هي شهاداتهم العلمية؟
أسئلة عديدة ونماذج متعددة سنعرضها تباعًا في هذا الباب المعنون بـ”مجتمع خبري” والذي يعني بمشاركة العاملين في قطاعات الاقتصاد المختلفة أفراحهم قبل أتراحهم.
إسمي طارق سعيد الحلواني، من مواليد محافظة الشرقية عام 1969 ، هكذا أراد طارق الحلواني، مراقب أول التسويق بشركه مصر لتأمينات الحياه.
أكمل تعليمه إلي أن تخرج من المعهد العالي للتعاون الزراعي عام 1990 ، اي قبل أربعة عقود تقريبًا.
يقول الحلواني، إلتحقت بالعمل في شركة الشرق للتأمين بعد التخرج بعامين- في شتاء 1992- وكان ذلك وليد الصدفة، فلم أسعي للعمل بشركات التأمين من الأساس، لكن صديقي كان يعمل فيها وكنت أتندر عليه أن يعمل في هذه المهنة من الأساس.
ويكمل طارق الحلواني القصص الأولي لعمله في التأمين، فيقول. “صديقي كان دائم الزيارة لي في قريتي – ميت أبو علي بالزقازيق في الشرقية خاصة بعد أن أنهيت فترة تجنيدي- مصطحبًا إياه لمقابلة جيراننا في القرية وأنا موقن أنه لايعرفهم معرفة شخصية، صف ضابط مرة ورجل مزارع مرة أخري وهكذا ، يتحدث معهم في التأمين شارحًا حينا ومقنعًا بأهميته أحيانا، في كل مرة كان يدور في خلدي بدل السؤال ألف ولكن حياءنا كأبناء الريف يمنعنا من التطفل بالسؤال.
زيارات صديقي وحيائي من التطفل عليه متساءلًا
الاسئلة كثيرة وجميعها بلا إجابات، لماذا يزور هؤلاء الناس رغم أنه لايرتبط معهم بعلاقات قرابة أو نسب؟ ناهيك عن إختلافهم طبائعهم وتنوع أطيافهم؟ لكن حيائي لم يتحمل كل هذا الصبر، إلي أن تطفلت عليه متساءلًا عن سبب تلك الزيارات؟ وما هو التأمين الذي يتحدث عنه لجميعهم؟ أجابني شارحًا لماهية التأمين ويتخلل حديثه ضحكات ساخرة.
تندرت عليه العمل في هذا المجال ، رغم استفاضته بالشرح عن أهميته وتعبيرات وجهه يكسوها الجدية ، قلت له لماذا تعمل في مجال لست دراسًا له، بل دارسًا للزراعة مثلي، دعك من هذا وهيا بنا نعمل في مجالنا، نستصلح أرضًا أو نقدم علي هجرة؟ كان الرفض إجابته الدائمة، محاولًا إقناعي بأهمية هذا المجال وضروريته خاصة للبسطاء ومحدودي الدخل، خاصة وانه يمثل حماية لهم من مخاطر الزمن وغدره، وضمانا للمستقبل من بعد الله بالطبع، لكن إجابتي عليه كانت ببيت شِعر يقول “لقد أسمعت لو ناديت حيـًا.. ولكن لا حياة لمـن تنادي، ولو نارٌ نفخت بها أضاءت.. ولكن أنت تنفخ في الرماد ” وهو تعبير عن رفضي لعرضه بل اصراري علي أنه يخصم من رصيد عُمره في مجال لا فائدة منه.
الرفض القاطع إجابة مٌعتادة
رفضي القاطع لم يشفع لي أمام إصرار صديقي، حتي أنه ذات مرة زارني ولكن ليس بمفرده كما العادة، بل كان برفقته مديره او رئيس مجموعته المباشر ، وجددا عرضهما عليً بالعمل معهم، ولكن كان رفضي القاطع، إجابتي المٌعتادة ، لقناعاتي أن أحدًا لن يقبل شراء وثيقة تأمين، كيف سيشتري وعدًا؟ ما الضمانة؟ كيف أدفع أموالًا بشكل دوري علي أمل أن احصل عليها مجتمعة مضافًا إليها عائدًا استثماريا؟ ما الضمانة ان يحصل الورثة علي هذه الأموال او التعويض او المطالبة في حال وفاة العميل في اي لحظة؟ وما الضمانة في الأساس لإلتزام العميل بسداد الأقساط؟
طلبا مني أن ارافقهم لزيارة المدرسة الإبتدائية بقريتنا، وافقت ، قاما خلالها بتوزيع كروتًا علي الطلاب تتضمن شرحًا مبسطًا للتأمين، ما هو؟ ومزاياه؟ وأهميته؟ متذيلة بسؤال، هل بعد هذا تريد ان تشتري وثيقة تأمين؟ وإذا كانت الإجابة بنعم عليهم بالحصول علي توقيع ولي الأمر يفيد بالموافقة.
إتفقا ان يأتي أحدهما او كلاهما او مندوبًا عنهما في اليوم التالي لجمع الكروت او البطاقات التي تم توزيعها، ثم فرزها وزيارة اصحاب الكروت التي وافق أولياء أمورهم علي شراء الوثيقة.
جامع البطاقات من التلاميذ رغم الأمطار كحسوم الأسكندرية
في اليوم الموعود، أمطرت السماء بكثافة كالحسوم التي تضرب الأسكندرية، هاتفني صديقي ومن كان برفقتي، يطلبون مني جمع البطاقات نيابة عنهم لصعوبة مجيئهم، وسيتولون هم فرزها بعد تحسن المناخ، لم أرفض طلبهم، فلم ننشئ علي رفض سائل، وما طلبوه أمر يسير ولا صعوبة فيه.
جمعت البطاقات او الكروت بالفعل، لكن فضولي دفعني لمحاولة فرز تلك البطاقات، وهنا كانت المفاجأة، أحد هذه البطاقات أو الكروت ممهورة بتوقيع ولي أمر أعرفه، يعمل منجدًا عربيًا- اي صانع المراتب والمخدات في الريف- وافق فيها علي شراء وثيقة التأمين!!!!!!!!!!.
لم يتوقف فضولي وشغفي لمعرفة سبب قبول هذا الرجل شراء الوثيقة؟ كيف يوافق علي ورقة لا تحمل إلا وعدًا بالتعويض؟ كيف سيسدد أموالًا دورية لشركة التأمين تسمي أقساط؟ وهل يضمن وفاء الشركة بوعدها؟.
الاسئلة حائرة ، لم يوقفها سوي زيارة الرجل، طارحًا عليه اسئلتي، كانت إجابته قاطعة، نعم أرغب في شراء وثيقة التأمين، وساسعي لفهم مضمونها من مندوب الشركة.
في اليوم التالي جاءني صديقي ليتسلم الكروت، سلمتها له كاملة ما عدًا كارت”المنجد” وأومأت إليه بقبولي العمل في التأمين، كان مندهشًا لكن سعيدًا في الوقت ذاته.
حاولت تعلم مبادئ التأمين، ذهبت هنا وهنا شارحًا للبرامج التأمينية مرة، ومقنعًا الناس بشراؤها مرات، ولأن القدر كان رحيمًا بي، وكان الله معضدًا، لم يخزلني مرة، رغم ان “المنجد” لم يستمر في سداد الوثيقة ، ولا صديقي استمر في مهنته التي تندرت عليه العمل فيها، وكأن المطر جاء لأمتهن أنا المهنة ويبتعد هو عنها لأسباب ليست ذا علاقة بالمهنة ذاتها.
ويومًا تلو الأخر أحببت التأمين وأصبحت من أشرس المدافعين عنه والعاشقين له، ولم أبخل عليه بجهدي ولم يبخل عليً التأمين بالعائد المادي المجزي”.
وعن أكثر المواقف الضاحكة او الغريبة التي تعرض لها خلال سنوات عمله في الشرق للتأمين- مصر لتأمينات الحياة حاليًا بعد دمج الشركات الحكومية الثلاث قبل عشر سنوات ونيف- قال طارق الحلواني ضاحكًا.
ذات مرة دخل عليً المكتب شاب أربعيني، مستفسرًا عن ماهية التأمين وأهميته، وكيفية إستصدار وثيقة، طلبت منه أن يستريح، وبعد الإجابة علي تساؤلاته، وإقناعه بأهمية الوثيقة، طلبت منه إحتساء كوبًا من الشاي، إعتذر بأدب لأنه كان في عجلة من أمره.
قصة عملي كخاطبة وسبب رفض العميل للخطيبة المُرشحة
ولأن موظف التأمين خاصة العاملين في الجهاز الإنتاجي يجب ان تتأصل علاقاتهم بالعملاء علي المستوي الإنساني، لان التأمين في الاساس عمل إنساني قبل ان يكون نشاط تجاري، قلت للعميل، كم عدد أبناؤك؟ أجابني، لست لي أبناء، توقعت أن الله لم يرزقه الذرية الصالحة حتي الأن- حينذاك- قلت له “ربنا يعوض عليك”.
إبتسم الشاب وقال لي “أنا لست متزوجًا حتي الأن” إبتسمت له ، قلت “خلاص نشوف لك عروسة؟” أجابني مرُحبًا “ياريت”.
لم يكن عرضي عليه مجرد إنهاءً للحديث، فقد تقمصت دور الخاطبة الأمينة والصادقة ، وقتها كان في ذهني إحدي الشابات الفضليات خريجة جامعة الأزهر، وتعمل مُعلمة، قلت له “لك عندي عروسة وهي علي خُلق وخريجة جامعة الأزهر” أجابني ضاحكًا ” مينفعش”!!!!!!!!!!
سألته، لماذا؟ ألست كنت موافقًا بل ومُرحبًا؟ أجابني ” مينفعش علشان أنا مسيحي”.